عرض لمسألتين من كتاب الإيمان لابن تيمية رحمه الله .
1- دخول العمل في مسمى الإيمان .
2- حكم مرتكب الكبيرة .
بسم الله الرحمن
الرحيم1- دخول العمل في مسمى الإيمان .
2- حكم مرتكب الكبيرة .
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين , والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله واصاحبه اجمعين وبعد .
فهذا تقرير مختصر لعرض مسألتي دخول العمل في مسمى الإيمان , وحكم
مرتكب الكبيرة من خلال كتاب شيخ الإسلام
ابن تيمية الإيمان وقد حاولت جاهدا جمع كل ما يتعلق بهذه المسائل وقد جمعتها
ورتبتها وسأبدأ اولا بعرض مسألة دخول العمل في مسمى الإيمان ومن الله التوفيق
والسداد .
المبحث الأول
دخول العمل في مسمى الإيمان
إن الإيمان عند أهل السنة قول
وعمل ونية ، وهو من شعائر السنة، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك .
قال الشافعي رضي الله عنه : وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من
بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر.
وقال أبو عبيد: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة
المعمول به عندنا.
كما سئل سَهْل بن عبد الله التَّسْتُرِي عن الإيمان ما
هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كُفْر، وإذا
كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة
, فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها
قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " فكان كل ما يحبه الله
يدخل في اسم الإيمان , ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال قوله
تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا
سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]
، فنفى الإيمان عن غير هؤلاء، فمن كان إذا ذكر بالقرآن لا يفعل ما فرضه الله عليه من
السجود لم يكن من المؤمنين... وهذه الآية مثل قوله {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
[المجادلة: 22] ، بين سبحانه أن الإيمان له لوازم , وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت
لوازمه , وانتفاء أضداده , ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله , ومن هذا الباب
قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وقوله:
" لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه" وأما
إذا قُيِّدَ الإيمان، فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في
القلب من الإيمان باتفاق الناس، وهل يراد به أيضًا المعطوف عليه، ويكون من باب عطف الخاص على العام أو لا؟ , يكون حين الاقتران داخلاً في مسماه؟ بل يكون
لازماً له، على مذهب أهل السنة ... مثال ذلك اسم المعروف والمنكر إذا أطلق كما في
قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}
[الأعراف: 157] يدخل في المعروف كل خير، وفي
المنكر كل شر.
ثم قد يقرن بما هو أخص منه
كقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] ،
جعل البغي هنا مغايراً لهما، وقد دخل في المنكر .
ثم قد يقرن بها اسم آخر، كما
في قوله : {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وقوله: {آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن
رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] ، فعطف قولهم على الإيمان، كما عطف القول السديد على
التقوى، ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد .
وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل
أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة،
وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال: فذكرت
ذلك لعطاء فقال: سلهم: الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
[الأنفال: 37] ، فَسألتهم فلم يجيبوني، فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل،
فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان الله! أما يقرؤون الآية التي في البقرة:{لَّيْسَ الْبِرَّ
أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ} قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ} إلي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، فقال:
سلهم: هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ .
والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على
إيمان خال عن عمل , والقرآن فيه كثير من هذا يصف المؤمنين بالصدق، والمنافقين
بالكذب؛ لأن الطائفتين قالتا بألسنتهما: آمنا، فمن حقق قوله بعمله فهو مؤمن صادق ,
ومن قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو كاذب منافق، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً
لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166، 167] ، وفي آية البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] دل على أن المراد: صدقوا في قولهم:
آمنا؛ فإن هذا هو القول الذي أمروا به وكانوا يقولونه.
وهكذا أسماء دينه، الذي أمر الله به ورسوله يسمى إيماناً، وبراً،
وتقوى، وخيراً، وديناً، وعملاً صالحاً، وصراطاً مستقيماً، ونحو ذلك، وهو في نفسه
واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك
الصفة هي الأصل في اللفظ، والباقي كان تابعاً لها لازماً لها، ثم صارت دالة عليه
بالتضمن، فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق
بالقلب، وإقراره ومعرفته. ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد:
قول القلب, والتوكل: عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن
وعمله، ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله
ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله
وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان.
ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة
وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ألا وإن في الجَسَدِ
مُضْغَةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائر الجسد، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لها سائر الجسد،
إلا وهي القلب " , قال أبو هريرة: القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب
الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده , وقول أبي هريرة تقريب، وقول
النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم
اختيار، قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه،
بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم: " إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد
"
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان
علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق،
كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر
تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال: من قال
من الصحابة عن المصلي العابث: لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه. فلابد في إيمان
القلب من حب الله ورسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
ومن هنا يظهر خطأ قول
جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم
يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان
بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله،
ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء ... إلخ , قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي
الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن فالإيمان عندهم
تصديق أو العلم بالله .
وهذا القول، مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من
أهل الكلام المرجئة. وقد كفَّر السلف كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل وأبي عبيد
وغيرهم من يقول بهذا القول.
وقولهم هذا يلزم منه ايمان إبليس وهو كافر بنص القرآن، وإنما كفره
باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذب خبراً. وكذلك فرعون وقومه، قال
الله تعالى فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا
وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وقال موسى عليه
السلام لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} فقول موسى يدل على أن فرعون كان عالماً بأن الله أنزل
الآيات وهو من أكبر خلق الله عناداً وبغيًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه .
وَهَؤلاء غلطوا في أصلين :
أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال،
وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا وقد بينا
سابقا وجوب دخول العمل في الإيمان .
والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مُخَلَّد في النار،
فإنما ذاك؛ لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق. وهذا أمر خالفوا به الحس
والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السَّلِيمِي الفطرة وجماهير النظار،
فإن الكفار كانوا يعرفون أن النبي على حق وأنهم على باطل لكنهم لم يؤمنوا بالله مع
علمهم به وذلك راجع إلى اسباب دنيوية , فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس
كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق. ولهذا لا يذكر الكفار
حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح
{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] ، ومعلوم أن اتباع
الأرذلين له لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي
صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخَبَّاب بن الأرَتّ،
وعمار بن ياسر، وبلال ونحوهم , فكان كفرهم حسدا لان هؤلاء كانوا اقل منزلة منهم
فكيف سبقوهم إلى الإيمان .
وللجهمية هنا سؤال وهو أن القرآن نفي الإيمان عن غير هؤلاء، كقوله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
[الأنفال: 2] ، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان، قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل
هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم
يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءًا، نزاع لفظي.
الثاني: أن نصوصاً صرحت بأنها جزء، كقوله: " الإيمان بضع وستون
أو بضع وسبعون شعبة ... "
الثالث: أنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل
إيمان، كان قولكم قول الخوارج، وأنتم في طرف، والخوارج في طرف؛ فكيف توافقونهم؟
ومن هذه الأمور: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد،
والإجابة إلى حكم الله ورسوله، وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه، وإن كفرتموه كان
قولكم قول الخوارج.
الرابع: أن قول القائل: إن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم ألا يكون في
قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق، قول يعلم فساده بالاضطرار وقد بينا ذلك
سابقا في قصة ابليس وفرعون.
الخامس: أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات، فيرتفع النزاع
المعنوي.
أما ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال؛
ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها
لازمة له , والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة،
ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع
وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا: رجل في قلبه من
الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني
بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان، يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان، فيبقى سائر
المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار.
والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب،
وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن
قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع
قدرته عليه. وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم
يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول
أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر
عليهم، فإنهم رأوا أن اللّه قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير
موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 30] ورأوا أن
الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] .
وقالوا: لو أن رجلاً آمن بالله ورسوله ضَحْوَةً ومات قبل أن يجب عليه
شيء من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من
الإيمان. وقالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل الله آية وجب
التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل
الله ما بقى الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين
الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما.
والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون: إن الأعمال قد تسمى
إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه، ويقولون:
قوله: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شُعْبَة أفضلها قول: لا إله إلا
الله، وأدناها إمَاطَةُ الأذَى عن الطريق " مجاز.
والمرجئة ثلاثة أصناف:
الفريق الأول القائلين : أن الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من
يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة , ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم
ومن اتبعه كالصالحي .
الفريق الثاني القائلين : أن الإيمان هو مجرد قول اللسان، وهذا لا
يعرف لأحد قبل الكَرَّامية.
الفريق الثالث القائلين : أن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا
هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه :
أحدها : ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق
العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن
اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد،
وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل
نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي
يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما
أخبر به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق
الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك. وأما من بلغه القرآن
والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل
بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل
أن يبلغه شيء آخر.
وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، فصحيح؛
لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن
يعرف، فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين.
فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس
شيئًا واحداً في حق جميع الناس. وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة
واجبها ومستحبها من الإيمان، أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان
الواجب. ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات
وأما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع. فهذا صحيح. وقد
بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها. وقد يقرن به
الأعمال. وذكرنا نظائر لذلك كثيرة. وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب. والأعمال
الظاهرة لازمة لذلك. لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح،
بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان
متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه
أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة , فإنه قصد أولاً:
أن تكون العبادة لله وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان
واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛ لأنه
الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح فإنه أيضاً من تمام الدين لابد منه،
فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح .
أما قول السلف في أقوال هذه الفرق كالجهمية والمرجئة فقد ورد عن غير
واحد منهم تكفيرهم ومن ذلك ما قاله الحميدي : سمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون:
الإيمان قول وعمل. والمرجئة يقولون: الإيمان قول. والجهمية يقولون: الإيمان
المعرفة. وفي رواية أخرى عنه: وهذا كفر. قال محمد بن عمر الكُلاَّبي: سمعت وكيعاً
يقول: الجهمية شر من القَدَرِيَّة، قال: وقال وكيع: المرجئة: الذين يقولون:
الإقرار يجزئ عن العمل، ومن قال هذا فقد هلك، ومن قال: النية تجزئ عن العمل، فهو
كفر، وهو قول جهم، وكذلك قال أحمد بن حنبل.
المبحث الثاني
حكم مرتكب الكبيرة
لقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان،
وسائر أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في
قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضاً على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع
فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه
قال: " لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة
" .
فأهل السنة الذين قالوا هذا
يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار.
لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب،
ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله، وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب
بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان،
فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب؟ ! وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل
الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب ب {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، غير قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يرتابوا ..} , وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً،
يقال فيه: إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل
السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه. فقيل: يقال: مسلم،
ولا يقال: مؤمن. وقيل: بل يقال: مؤمن.
والتحقيق
أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان
المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر
الله به ورسوله ؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره،
وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث
طوائف: يدخل فيه المؤمن حقاً. ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في
الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي
الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر. ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل
حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه.
ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس
معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات،
وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا: آمنا، من غير قيام منهم
بما أمروا به باطناً وظاهراً. فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في
سبيل الله، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل
الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء
لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال
الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، ولهذا كان أهل السنة
والحديث على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: يزيد وينقص، ومنهم من يقول: يزيد، ولا
يقول: ينقص، كما روي عن مالك في إحدى الروايتين .
اما ما نقل بعض الناس عن الصحابة في ذلك
خلافاً، كما روى ابن عباس: أن القاتل لا توبة له، وهذا غلط على الصحابة، فإنه لم
يقل أحد منهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر ولا قال: إنهم
يخلدون في النار، ولكن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال: إن القاتل لا توبة له،
وعن أحمد بن حنبل في قبول توبة القاتل روايتان أيضاً، والنزاع في التوبة غير
النزاع في التخليد، وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي؛ فلهذا حصل فيه النزاع .
ولكن للسلف أقوال فيمن ترك بعض العبادات
المخصوصة التي ورد فيها وعيد مثل الصلاة , قال إسحاق: من ترك الصلاة متعمداً حتى
ذهب وقت الظهر إلى المغرب، والمغرب إلى نصف الليل، فإنه كافر بالله العظيم، يستتاب
ثلاثة أيام، فإن لم يرجع وقال: تركها لا يكون كفراً، ضربت عنقه يعني تاركها , وقال
محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات عند ذكر تسمية الله الصلاة
وسائر الطاعات إيمانًا، واستدلوا أيضاً بما قص الله من إباء إبليس حين عصى ربه في
سجدة واحدة أمر وهل كان كفره إلا بترك سجدة واحدة أمر بها فأباها؟ , وقد كان حماد
بن زيد يفرق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإيمان خاصاً والإسلام عاماً حيث قال : لقد
أوجب الله النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان زائل عمن أتى كبيرة.
قالوا: ولم نجده أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله،
واسم الإيمان زائل عنه.
وقال محمد بن نصر: وقالت طائفة أخرى من
أصحاب الحديث بمثل مقالة هؤلاء، إلا أنهم سموه مسلماً لخروجه من ملل الكفر
ولإقراره بالله وبما قال، ولم يسموه مؤمناً، وزعموا أنهم مع تسميتهم إياه بالإسلام
كافر، لا كافر بالله، ولكن كافر من طريق العمل، وقالوا: كفر لا ينقل عن الملة،
وقالوا: محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن " والكفر ضد الإيمان، فلا يزول عنه اسم الإيمان إلا واسم الكفر لازم
له؛ لأن الكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران: كفر هو جحد بالله وبما قال فذاك
ضده الإقرار بالله والتصديق به وبما قال، وكفر هو عمل فهو ضد الإيمان الذي هو عمل،
ألا ترى إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن من لا
يأمن جاره بوائقه ". قالوا: فإذا لم يؤمن فقد كفر، ولا يجوز غير ذلك إلا أنه
كفر من جهة العمل؛ إذ لم يؤمن من جهة العمل؛ لأنه لا يضيع ما فرض عليه ويرتكب
الكبائر إلا من قلة خوفه، وإنما يقل خوفه من قلة تعظيمه لله ووعيده، فقد ترك من
الإيمان التعظيم الذي صدر عنه الخوف والورع، فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لا يؤمن إذا لم يأمن جاره بوائقه.
اما فيما يخص الأعراب
الذين ذكرهم الله في القرآن فنفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام فقد أختلف فيهم ،
هل هو إسلام يثابون عليه؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين؟ فيه قولان مشهوران للسلف
والخلف:
والقول الأول: أن هذا
الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا: وهؤلاء كفار،
فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر. وهذا
اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك ,
القول الثاني : أنه إسلام يثابون عليه،
ويخرجهم من الكفر والنفاق. وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي،
وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله
التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة , والدليل على أن
الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال:
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] ، فدل على
أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم الله على الطاعة، والمنافق
عمله حابط في الآخرة , وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين
وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي: {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم
بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... } الآيات [البقرة: 8:
10] ، وقال: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، فالمنافقون يصفهم في القرآن
بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما
يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك , قال السُّدِّيّ: نزلت هذه الآية في
أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم الله في
سورة الفتح وكانوا يقولون: آمنا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى
الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية , وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر
فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين , وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب
والكبائر، بخلاف من هو كافر في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى
يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا
, وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين
والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله
عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة
أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، بل يدخلون في
الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول، ولا استنارت قلوبهم بنور
الإيمان ولا استبصروا فيه، وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر
الطُّلَقَاء ، ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ
اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، فقلت له: ما هذا الكفر؟
قال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من
ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن " لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه .
أما ما نقل عن أحمد بن حنبل عندما سئل عن
قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "
فقال: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى
دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان.
قلت: فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع
الإيمان فلم يبق معه منه شيء ، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير
موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "،
وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق
الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، وهو الفارق بينهم
وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم
المطلق الممدوح .
وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجون مرتكب
الكبيرة من اسم الإيمان والإسلام فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا
عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول: هم كفار، والمعتزلة ينفون
عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام أيضاً ويقولون: ليس معه شيء من الإيمان
والإسلام، ويقولون: ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون: إنه يخلد في النار لا
يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم ، وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا
معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة .
أما الجهمية والمرجئة، فيقولون: إنه كامل
الإيمان - لان الإيمان عندهم شيء واحد لا يتبضع ولا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص - فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول : الاسم المطلق
مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا: مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم،
فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في
الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا
تسقط عنهم الأمر.
ومن تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في
معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله
ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو
قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من
غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه
هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو
الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم ألاّ يدخل أحد منكم النار،
بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب
رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك.
وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني
والقاذف والسارق، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدين يجب قتلهم، بل
القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن
الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني، وقطع السارق، وهذا متواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا مرتدين لقتلهم. فكلا القولين مما يعلم فساده
بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
ختاما أسأل الله أن
اكون قد وفقت في عملي هذا راجيا من الله التوفيق والسداد وآخر
دعواي أن الحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق